اجتذب قرار الرئيس "بوش"، الذي يقضي بتخفيض عدد القوات الأميركية في الخارج بما يصل إلى 70 ألف جندي على مدى سنوات العقد القادم، اهتماماً أكبر مما يستحقه من الناحية العسكرية البحتة. غير أن حقيقة إعلانه، في هذا الوقت بالذات، أعطت الأمر شأناً إضافياً.
والدافع إلى التغيير واضح للعيان. فالحرب الباردة انتهت. وروسيا لا تشكل تهديداً عسكرياً واقعياً. وفي أوروبا تقع أحداث ذات شأن قليل من الناحية الاستراتيجية. والتكنولوجيا العسكرية الحديثة تتيح إبراز القوة على نحو فاعل من جهة الولايات المتحدة الأميركية إلى بقية العالم. وحتى في شبه الجزيرة الكورية، وفي ما هو خارج نطاق الأزمة مع "بيونغ يانغ"، لا ينبغي أن تكون الولايات المتحدة الأميركية بحاجة إلى الاحتفاظ بكل ما لديها هناك الآن من قوات لأسباب عسكرية بحتة.
فما هو إذاً مصدر القلق؟ جزء من مصدر القلق يتعلق بالتوقيت. ففي شبه الجزيرة الكورية، تقوم الولايات المتحدة الأميركية بالموازنة ما بين الجَزر والعصي لتمارس الضغط على "بيونغ يانغ" لدفعها إلى التوقف عن المضي في تطوير الأسلحة النووية وإلى البدء بالانفتاح على العالم الخارجي. غير أن الإشارة إلى تقليص قوام القوات الأميركية الآن، حتى إذا لم يحدث لبعض الوقت، لها عواقب خطيرة. ذلك أن الإعلان، الذي اقترن بإعادة نشر بعض من القوات الأميركية في الجنوب من سيئول- أي خارج مدى المدفعية من كوريا الشمالية- هو أمر لا يقدم أية طمأنة لكوريا الجنوبية.
وفي أوروبا، هناك حجة تبرر إعادة تقييم ماهية ما تحتاج إليه القوات الأميركية لكي يتم نشرها وإعادة تقييم مكان ذلك. والتحرك قليلاً نحو الشرق- أي إلى بولندا ورومانيا، وربما أيضاً إلى بلغاريا- يوفر إمكانية الدخول إلى أراض للتدريب ذات مشاكل سياسية أقل من تلك الموجودة في ألمانيا ذات الكثافة السكانية العالية. وأوروبا الوسطى أقرب إلى العمل العسكري المحتمل في الشرق الأوسط. وحتى روسيا تقبل هذا التطور، لكن ذلك مشروط بعدم توسع نطاقه إلى دول "البلطيق" الأعضاء في حلف شمال الأطلسي "الناتو". وفي أوروبا الغربية، تتصف الشكوك التي تدور حول الحكمة من عمليات سحب القوات بأنها شكوك سياسية- عسكرية وليست عسكرية بحتة. فالحلفاء يدركون الحاجة إلى عملية إعادة تشكيل للقوات على مدى أكثر من سبع سنوات. غير أن الإعلان عن ذلك كان من الممكن أن يتم توقيته على نحو أفضل. فليس الجميع في أوروبا مقتنعين حتى الآن، في أعقاب الأزمة الأسوأ منذ نصف قرن في العلاقات بين ضفتي الأطلسي، بأن سياسة الولايات المتحدة قد رجعت إلى التعاون مع الحلفاء. ومهما كان الأمر يبدو لامنطقياً، فإن مستويات القوة الأميركية في أوروبا بقيت لفترة زمنية طويلة تعبيراً عن التزام الولايات المتحدة. كما أنه ليس لدى الجميع، ولا سيما في أوروبا الوسطى، ثقة بأن المشكلة الروسية قد تم إرسالها إلى ذمة التاريخ.
والأهم من ذلك هو الدور الذي تلعبه الانتشارات الأميركية في توفير تماسك لحلف "الناتو". فمع مضي خمسة عشر عاماً بعد نهاية الحرب الباردة، ما تزال عمليات القيادة المركزية هي البنية القيادية العسكرية المتكاملة تماماً والوحيدة في التاريخ . وما تزال الدول الأعضاء في الحلف وعددها 26 دولة، ترى ما يكفي من الأهداف المشتركة ما بينها لكي تقدّر، من الناحية الاستراتيجية، التعاون اليومي الذي لا يوفر فقط مصادر القوة للعمل العسكري المشترك، بل يوفر أيضاً حكماً مسبقاً في مصلحة مواجهة التهديدات على نحو جماعي. وما يزال الحلفاء يريدون أن يكون هناك جنرال أميركي ليتولى قيادة التحالف العليا في أوروبا.
ومن ناحية الموقف الأمني الكلّي للولايات المتحدة الأميركية، وبناءً على ما سبق، هناك حاجة إلى تمركز قوات كافية وعلى نحو دائم في أوروبا من أجل إبقاء عمليات قيادة التحالف في حالة استعداد وعمل دائمين، إضافة إلى التفاعلات اليومية بين آلاف الأشخاص- بين تخطيط وتدريب وانتشار، وقتال في بعض الأحيان، واعتبار هؤلاء أن مصائرهم مرتبطة معاً. وفي ما هو أبعد من مرحلة لا أحد يعرفها، سيعني تقليص عدد القوات الأميركية أنه ستكون هناك قيادة أقل وتأثير أقل، وهو ما لا يمكن أن يكون في مصلحة الولايات المتحدة الأميركية والحلف.
وبالطبع ليست القوات الأميركية في أوروبا موجودة هناك من أجل أوروبا في المقام الأول. ذلك أنها مكرسة بالدرجة الأولى لكي يتم استخدامها في مناطق أخرى- لكن مع حشدها وتجميعها من بعض أفضل القواعد العسكرية في العالم والاستفادة من التفاعلات مع القوات الأخرى والتي تزيد من فرص انضمام الحلفاء ومشاركتهم في الائتلافات التي يشكل حلف "الناتو" أساساً لها، لكي لا يتم ترك الولايات المتحدة الأميركية وحيدة.
ولدى القيادة الأوروبية الأميركية مسؤوليات تمتد إلى رأس الرجاء الصالح ونحو الشرق إلى مضيق "بيرينغ". ولا يشتمل هذا فقط على تدريب وتجميع القوات من أجل القتال وحفظ السلام، بل يشتمل أيضاً على "الشراكة من أجل السلام"؛ وإحلال الاستقرار في غرب أف